من المعلوم جليا عند المحققين أن الأحكام الشرعية إذا ربطت بعللها ومقاصدها، كانت معينا لا ينضب في الاقتناع بها، والانجرار إلى تطبيقها بالكلية، والانتظام في سلك الداعين إليها. بخلاف من ألزم بها رأسا بدون تبيين علل الأحكام له، يكون مثل هذا في شك من أمره، وارتخاء في عمله وتثاقل في تطبيق مقتضيات الحكم، بل سيسعى باحثا عن الرخص، منقبا على الحيل، تملصا من ربقة الحكم وخروجا عن نطاقه، وتخلصا من وطأته. وهكذا لما غاب فقه المقاصد إقناعا واقتناعا، ظهر فقه الحيل هروبا وتهربا. مع العلم أن جهابذة الأمة وربانييها كان خير ما دبجته أقلامهم، وما فاضت به خواطرهم: الكشف عن مطاوي الأحكام وأسرارها، والنفاذ من منطوق النص إلى مفهومه، وعدم الاقتصار على الرسوم والأشكال، لأنهم مطبقون على أولوية المعاني على المباني، والجواهر على الظواهر. فكان لزاما علينا في هذا الشهر المبارك أن نجلي بعض أسرار الصوم ومقاصده، غير مقتصرين على ظواهر النصوص وحرفيتها، من تلكم المقاصد:
1. الصوم مدرسة الإحسان
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، وتقوى الله عز وجل في النص هي العلة المقتضية للحكم، لأنه منصوص عليها تصريحا، وهي اتقاء سخطه واستحضار رقابته، لأنه سبحانه أهل لأن يخشى ويهاب، ويجل ويعظم في صدور عباده، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، وحقيقتها أنه إذا أراد مسلم أن يقدم على خطيئة ما، أو زين له الشيطان هفوة من الهفوات أو هنة من الهنات، ثم استحضر رقابة الإله وصفات كبريائه وعظمته، فضلا عن جماله وجلاله، ثم أبى التوحل في خضخاض المحظور، فذاك هو المتقي قطعا.
قال ابن مسعود في قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته " هي أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر" ، وكما قال طلق ابن حبيب: "التقوى هي أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله" ، وهذا الاستحياء الجميل من الله، والخوف العظيم من الجليل سبحانه، مرتبة سامقة في الدين ومنزلة راقية فيه، إنها مرتبة الإحسان العالية التي عرفها المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وهي عزيزة نادرة كالكبريت الأحمر، كما قال الإمام الشافعي: "أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة حق عند من يرجى أو يخاف" ، ويعضده حديث أبي طفيل مرفوعا بسند صحيح: "استحي من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك" ، وكما قال الحارث المحاسبي: "المراقبة علم القلب بقرب الرب" .
والمقصود هاهنا أن الصوم مدرسة لاستشراف منزلة الإحسان، وإجلال الله في نفوس عباده، فكم من مختل بالطيبات وأصناف للطعام، ولكنه يأبى الاقتراب منهاورعا من الله، أو ذوقها استحياء منه سبحانه، ناشدا قول ابن السماك:
يا مدمن الذنب أما تستحيي
والله في الخلوة ثانيكا
غرك من بك إمهاله
وستره طول مساويكا
ولاشك أن هذه التقوى إذا سرت في شرايين المجتمع ومؤسساته كلها في رمضان وغيره من الشهور، ستستأصل جذور الفساد كلها سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل سيصبح المجتمع ملائكيا لأن جميع أفراده في مراقبة ومشاهدة للخالق سبحانه، فلا اجتثاث إذن لهذا الارتكاس العام في حمأة الفتنة الدنسة، والانغماس الكلي في المستنقع الآسن من لدن كثير من أهل البغي والفساد من المسلمين جريا وراء النزغات واللذات الهابطة إلا بتربية إحسانية مدارها على الصوم.
2. الصوم مدرسة الحرية
وذلك أن الإنسان مكرم على باقي الكائنات والأشياء، فكان ضرورة أن يملكها ولا تملكه، وتكون خادمة له لا خادما لها. والصوم عند التحقيق تحطيم لأغلال الشهوات ودوافع الأكل والشراب. فهو قطع لأسباب الاسترقاق والتعبد لغير الله تعالى، وانعتاق من أسر الأشياء التي تملك أرباب الحظوظ والشهوات. وفي هذا عبرة لمن سار جاهدا في تحصيل حظوظه ومصالحه العاجلة، وهو لا يدري أنه قن لها، تملكه وتستعبده، بل إنه مزايل لحقيقة الخلافة في الأرض، إذ الخليفة لله عز وجل لا تملكه الأشياء. لكن إذا استغرق في حظوظه فقد أقلب الحكمة، وصير الفاعل مفعولا، قال تعالى: أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ، فإما عبادة للإله سبحانه، وإما دينونة للهوى: أفمن اتخذ إلهه هواه .
والمقصود أن مدرسة الصوم تورث الحرية من الرق للهوى، ليكون الإنسان عبدا لواحد أحد، لا عبدا للشركاء والآلهة المتعددة التي هي قاصمة لقلبه، ساعية لتمزيقه إذا هام بها حبا، فإن زاد في الصوم زادت حريته، ما لم يخرج إلى ضرر بالنفس والعقل، بل الكمال المحض في حق الإنسان أن يملك الأشياء ولا تملكه، ويسترقها بالخلافة ولا تسترقه. إنه إعلان لحرية الإنسان في هذا الشهر المبارك، فلله الشكر على بركة الصوم وفضائله.
3. الصوم مدرسة لتكريم الإنسان
وذلك أنه إذا صام الإنسان، صفت روحه، ورق قلبه، وقوي فهمه، وانكسرت نفسه، وضعف سلطان الغضب والهوى، فأصبحت الروح راجحة عن نوازع الجسد. هذه الروح عند التأمل هي سبب تكريم الإنسان لا محالة، قال سبحانه: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، وفي هذا الشهر المبارك تجد الروح جاذبة الإنسان إلى أصلها ومنبعها، مذكرة إياه بمنصبه ومركزه وغايته ومهمته، والعالم الذي انتقل منه بسبب الأكل -أكل تـفاحة-! فترى اللبيب غير راض عن ثقل المادة، ميالا إلى صفاء روحه وخفة معدته، مدركا أنه "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن" (رواه الترمذي بسند صحيح)، و"أن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (متفق عليه)، مقتفيا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي "ما شبع من طعام ثلاثة أيام حتى قبض" (رواه البخاري)، ونهج صحابته الكرام الذين جاعوا كثيرا وتقللوا من اللذات، لأن الله لا يختار لنبيه ولا لصحابته إلا أكمل الأحوال وأفضلها، بخلاف من ضعف سلطان روحه، واسترسل في اقتناص شهواته، ورتع فيها رتع البهائم السائمة، فجن بها جنونا عظيما وانصرفت همته وذكاؤه إلى التفنن في ألوان الأطعمة والإكثار منها والتهامها وانهضامها، ثم التهيئ لوجبة أخرى قادمة حتى أصبح الإنسان الغربي خصوصا وهو في أوج مدنيته وارتقائه الحضاري، كحمار طاحون لا يدور إلا بين المطبخ والمرحاض!
قال سبحانه: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم .
وما أجمل الإعلان الماركسي لحقوق الإنسان الذي زعم بأن مطالب الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! وهي مطالب للجسد لا غير. فإذا انحصرت هذه الرؤية الشوهاء للإنسان في مجتمع ما، صار مجتمع البهائم فقط أو مجتمع الأشياء. وحقا إن الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته، وكرمه على باقي الكائنات عاش تشييئا فضيعا في هذه المجتمعات، وظلما ساحقا لإنسانيته بإهدار جانب الروح فيه، فترى المسكين مسوقا إلى طاحونة الإنتاج قصرا لتوفير المطالب البهيمية! ليقضي حياته في شقاء دائم، وأرق مستديم، وقلق عميم، وعقد نفسية، لأن المذاهب المادية الأرضية أزالت أنفس ما في الإنسان، والجوهر الذي به تميز عن باقي الكائنات. وهو جانب الروح الطليقة التي تخف بالصوم في هذا الشهر المبارك.
4. الصوم مدرسة للاتصاف بوصف إلهي
وذلك أن الصوم من أوصاف الربوبية، لا يتصف به على الكمال غيره سبحانه كما قال عز وجل: وهو يطعم ولا يطعم ، وكما ورد في الحديث الصحيح: "الصوم لي وأنا أجزي به" (رواه أحمد بسند صحيح)، أي لا متصف به إلا الله، لأنه الغني عن الكل أبد الآبدين، ودهر الداهرين، والمنزه عن جميع الأعراض والشهوات أزلا وأبدا، ولا يتصف بهذا إلا الله، ومن سواه لابد له من أكل أو عرض، ملكا كان أو غيره، لأن الملائكة طعامهم التسبيح وشرابهم المحبة الخالصة والمعارف الصافية. ولما كان الصوم وصفا إلهيا فهو من أصعب الأشياء على النفوس، لأنه على خلاف ما جبل عليه الناس من مادة تستلزم الإطعام، ومن تم فمن صام فقد اتصف بتلك الصفة على قدر طاقة الإنسان، ووقف عن تحصيل حظوظ النفس بل استغنى بالصوم عنها. كما قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (انظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 11/27).
5. الصوم مدرسة للسلام العالمي
قلنا بأن الإنسان جسد وروح، وإذا تغلبت الطبيعة الجسدية على طبيعة الروح، وملكت زمامه وتحكمت فيه. أنشأت أسدا هصورا، وضرغاما مروعا، لا هم له سوى مصالحه المادية وإرضاء شهواته البدنية، لا يعرف لذلك حدا ولا نصابا، فلا يكفيه ما عنده من خيرات بل هو متوجس خائف حتى يؤمن احتياطاته خوفا من نفاذ الزاد. فإذا هدد في مصالحه، أو وجد عقبة تحول بينه وبين ضالته المنشودة، أقام حروبا مروعة، واقترف جرائم بشعة، ومظالم مخزية في حق إخوانه وبني جنسه. وما تاريخ الحروب الإنساني إلا قصة الجشع الفردي، والاستكبار في الأرض. لكن مدرسة الصوم تغيث الإنسانية الحائرة المهددة بالمادية الطاغية، وتفتح مغاليق القلوب الغافلة المجهدة لتنفي عنها طغيان الشهوات وقسوة المعدات& بل إن دور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وورثتهم الكمل: إنما هو تهيئ الإنسان إلى الكمال المطلوب الذي هيئ له وهو الولاية، وإكمال المهمة التي أهبط لها في الأرض وهي الخلافة، وتربيته على نشر الرحمة، والسلام الحقيقي، والتآلف بين البشر بكبح جماح الشهوات المادية، ليكون الناس كلهم عبيدا لله اختيارا كما أنهم عبيد لله اضطرارا.
6. الصوم مدرسة الإذن والأدب
هو تربية على النظام وضبط الأوقات، فليست الأمور في الكون سائبة مرسلة لا ضابط لها ولا مقيد، بل المسببات مرتبطة بأسبابها. والصائم لن يقرب عرضا أو غرضا رغم الكلل والضنى والمشاق التي يشعر بها إلا من بعد أن يأذن الله له بالإفطار عند الغروب، وهذا التقييد الزمني إشارة لأهمية الوقت وعظم نفاسته. فلا صوم إلا في وقت محدد وموعد معين، وهو أدب مع الله، إذ ينتظر إذنه سبحانه في الإفطار، وينضبط بما حدد الله له من سنن، وقد يتابع هذا الأدب فيشمل الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يقدم شيئا ولا يؤخره إلا بإذنه عليه الصلاة والسلام: "إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يومنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم، فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم" ، ويشمل كذلك الأدب مع ورثته الكمل الذي يقتضي احتراما لإذنهم في شؤون عرفوا دقائقها، واستولوا على الأمد في دخائلها، فلا ولوج لتلك الأبواب إلا بإذنهم فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم .
وإذا لم تر الهلال بليل
فسلم لأناس رأوه بالإبصار
جعل الله الصيام منارا للاهتداء، وصوى للإقتداء بمن كان أهلا للاصطفاء محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنقذ البشر من وأد الأدناس إلى يفاع الطهر والصفاء آمين والحمد لله رب العالمين.
Aucun commentaire :
Enregistrer un commentaire